وبين الخوف من الحواس والخوف من الجمال ..
(ميشيل مافيزولي - تأمل العالم)
________________________________________
بورتـريــه
زاوية أولى: روتيــن
... يتناول إفطاره فى تمام السابعة صباحا، يتصفح الجريدة وهو يحتسي الشاي ... يرتدى ملابسه، ثم يلقي السلام على زوجته، ويغادر في تمام الثامنة إلا الربع متوجها إلى عمله.
... فى طريقه إلى العمل يتوقف – مجبرا- أمام "مزلقان" السكة الحديد الذي يغلق يوميا في تمام الثامنة إلا خمس دقائق لمرور "القطار السريع" الذي لا يتوقف في بلدته الصغيرة .. هو لم يفكر أبدا في الخروج من منزله مبكرا أو متأخرا بضع دقائق فيتجنب الانتظار.. لأنه يفضل أن يستغل تلك الدقائق في ممارسة طقوس التأمل... في أحواله وأحوال أسرته.. بلدته.. وطنه.. والعالم الذي أصبح يطل عليه عبر القنوات الفضائية...
وككل يوم، يسمع صوت جرس عال فيعرف أن "القطار السريع" قادم، وككل يوم يخلف القطار بعد عبوره غبارا كثيفا، فيقوم عامل المزلقان بنزع السلسلة الحديدية من على جانبي الطريق، ويلقيها على الأرض فتحدث بعض الضجيج الذي سرعان ما يتوارى خلف ضجيج الناس والسيارات والدواب... وهي تعبر القضبان الحديدية متوجهة إلى الجانب الآخر من البلدة لممارسة روتيناتهم اليومية المعتادة...
زاوية ثانية: خيالات
كثيرا ما سيطرت عليه رغبة قوية فى رؤية بورتريه لذلك "القطار السريع"، ووفي كل مرة، وقبل أن ينفض هذه الرغبة الجامحة من خياله، يكون القطار قد مرق سريعاً، فينفتح المزلقان، ويعبر شريط السكة الحديد.. ذاهبا إلى عمله بمصلحة الموازين والمكاييل ... ومثل كل يوم، يتابع مهام وظيفته دون همة ونشاط، وطبعا دون خيال أو إبداع، فهو مجرد كاتب حسابات...
زاوية ثالثة : حواس
... بينما جموع الناس والسيارات والدواب في سكونٍ لا يخرقه إلا بعض الهمهمات الآدمية وبعض السُعال الخشن، وأصوات الحيوانات: نُباح، مُواء، نهيق... وحركة العيون النعسانة المنكسرة تتابع لحظة مرور القطار السريع ورفع السلسلة الحديدية التى تفصل بينهم وبين العبور لممارسة روتيناتهم اليومية فى الجانب الآخر من البلدة .. وسط هذا السكون يتقدم، فجأة ، مُخترِقا جموع الناس والسيارات والدواب، يرفعُ قدميه النحيلتين ليعبرَ السلسلة الحديدية الواطئة، يسير حتى شريط القضبان القادم عليها القطار، يلف جسده النحيل ويقف معتدلا بعينين صاغرتين يرمق القطار القادم.
... يعلو صوت نفير القطار... تعلو أصوات أبواق السيارات... تنهق الدواب والحمير، يصرخ عامل المزلقان، تعلو أصوات الناس بالنداء... "إرجع .. حاسب الجطر .. حاسب" ...
لا يعبأ بكل الأصوات الصارخة، كأنه لا يسمع، أو كأنه اختزل كل حواسه في البصر وحده، لرؤية بورتريه "القطار السريع" القادم بشموخه وعنفوانه وصلفه.
زاوية رابعة: بورتريه
... يستمر فى الوقوف معتدلا ثابتا كي يرى أوضح بورتريه للقطار، وقبل أن يدهسه بثوانٍ يدير جسده النحيل بمنتهى الهدوء، يسير خطوات قليلة حتى السلسلة الحديدية على الجانب الآخر، يرفع قدمه اليمنى ويتجاوزها، ثم يتبعها بالقدم اليسرى، ويواصل السير إلى جوف الجانب الآخر من البلدة، تاركا جموع الناس المندهشين، الواقفين هنا عند المزلقان: عمياً، صُماً، بُكماً... بعد أن امتلأت آذانهم وأفواههم الفاغرة، وأعينهم الصاغرة بالغبار الكثيف الذي دوما ما يخلفه "القطار السريع"، الذي يمر كل يوم من هنا، دون أن يتوقف عند بلدتنا الصغيرة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق